مقالات

عالم ما بعد الحقيقة – الجزء الثاني

في الفكر الحديث، بدأ الهجوم على موضوعية الحقائق في أواخر القرن التاسع عشر بعد أن نشر الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» Friedrich Nietzsche كتابه «ما وراء الخير والشر: مقدمة لفلسفة المستقبل» Beyond Good and Evil: Prelude to a Philosophy of the Future (1886)، حيث طرح فيه فكرته القائلة أننا لا نصل أبدًا إلى واقع مستقل عن معتقداتنا وقناعاتنا الذاتية، بما في ذلك الأخلاق التي تتسم بالتحيز غير الواعي واللا إرادي، والتي تُنتج فلسفةً تتجاهل كونها تخلق العالم على صورتها، ومن ثم نستطيع القول –وفقًا له– أنه ليست هناك فلسفة، بل فقط فلاسفة يحاولون بذريعة المعرفة، ودون أن يُقروا بذلك، أن يبرروا غريزتهم وأحكامهم المسبقة.

وعلى هذا النحو يذهب «نيتشه» إلى أن «المعرفة لا يمكنها أبدا أن تتطور على هذا النحو»، معتبرا أن العقبة الكأداء في وجه تطور المعرفة إنما هي النفاق الذي يقود العالم إلى أن يكذب على نفسه وعلى الآخرين!

ربما بدا «نيتشه» تقدميًا في هذا الطرح، لكنه في الحقيقة كان رجعيًا، فالنسبية التي دعا إليها تضرب بجذورها في الفكر اليوناني القديم، وبصفة خاصة لدى كل من «بروتاجوراس» و«هيراقليطس»، فالأول كان شعاره الأثير أن «الإنسان مقياس كل شيء»، وهو شعارٌ يرقى إلى مقولتنا الحداثية «عش حقيقتك» Live your truth، أو أن ما يعتقده كل شخص يُعد صحيحًا بالنسبة له، أما الثاني (هيراقليطس) فقد ذهب إلى أن «كل شيء يُكابد تغيرًا مستمرًا»، وبالتالي لا يوجد شيء صحيح على الدوام.

التصور السقراطي وعودة الفكر الغربي

ولا نغفل في هذا الصدد عن سعي «سقراط» إلى إنقاذ الحقيقة والمعرفة من فوضى التدفق المستمر، حيث اعترف بأن الأشياء التي نراها ونسمعها تتسم حقًا بالمرونة، ويمكن للناس إدراكها بأشكالٍ مختلفة: قد تكون السماء زرقاء اليوم ورمادية غدًا، وقد نرى أنا وأنت درجات مختلفة الألوان للسماء ذاتها وفي الوقت ذاته، ولكن إن كان كل شيء يتغير باستمرار فقد حكمنا على عالمنا بالعبث، لذا اقترح «سقراط» أن ثمة أشياء يمكن للبشر أن يتعارفوا عليها بالطريقة ذاتها، بحيث تكون هي ذاتها دائمًا، كالجمال والشجاعة والعدالة وتجريم قتل الأطفال والهوية الرياضية (2 + 2 = 4)

وغيرها من الحقائق الأبدية التي لا تتغير وفقًا لرؤيتنا لها. لقد اكتسب هذا التصور السقراطي للموضوعية زخمًا كبيرًا لدرجة أنه بحلول الوقت الذي عارضه فيه «نيتشه» وغيره من الفلاسفة بدوا وكأنهم متمردون على ما لا يمكن إنكاره.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

على أن موقف «سقراط» الداعم للحقيقة الموضوعية لم يحل دون عودة الفكر الغربي بعد وفاته إلى التشكيك في الحقائق أو إمكانية معرفتها، ولم يتورع الحاكم الروماني «بيلاطس البنطي» Pontius Pilate عن محاكمة المسيح والاستهزاء به متسائلا: «ما الحق؟»، ولذا لم يكن مفكرو القرن العشرين حين نادوا بنسبية الحقيقة يقدمون شيئًا جديدًا بقدر ما كانوا يعودون إلى طرح قديم ومُبكر للفكر الغربي.

هذا ما عبَّر عنه الفيلسوف الأمريكي «آلان ديفيد بلوم» Allan David Bloom حين صرَّح في كتابه «إغلاق العقل الأمريكي» The Closing of the American Mind (1987) قائلا: «تقريبًا كل طالب يدخل الجامعة يعتقد، أو يقول إنه يعتقد، أن الحقيقة نسبية»، وهو ما لاحظه أيضًا الناقد الأدبي الإنجليزي «كريستوفر ديريك» Christopher Derrick في كتابه «الهروب من النزعة الشكية» Escape from Skepticism (1977)، إذ كتب قائلا: «عندما يصل الطالب إلى مرحلة الدراسة الجامعية، فإن أفضل حكمة يمكن للجامعة أن تعلمه إياها هي أنه لا توجد حكمة»!

أول من استخدم مصطلح «ما بعد الحقيقة»

في سنة 2016 اختار معجم أكسفورد كلمة Post-Truth (ما بعد الحقيقة) ككلمة العام، وهو تقليد سنوي يقوم فيه المُعجم باختيار الكلمة الأكثر تداولا وتأثيرًا على مدار العام. وعرَّفها بأنها «مصطلح يُشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام، مقارنة بتأثير الميول والعواطف والمعتقدات الشخصية».

وكان أول من استخدم مصطلح «ما بعد الحقيقة» في سياقه المعاصر هو الكاتب المسرحي الأمريكي الصربي «ستيف تيسيتش» Steve Tesich في مقال له نُشر سنة 1992 تحت عنوان «حكومة الأكاذيب» A Government of Lies، وفيه انتقد المجتمع الأمريكي الخاضع لأكاذيب إدارة «بوش الأب» George Herbert Walker Bush، وقراره الواعي بالعيش في عالم ما بعد الحقيقة، العالم الذي لم تعد فيه الحقيقة مهمة أو ذات صلة بالحياة العامة.

كذلك استخدم الكاتب الأمريكي «رالف كيز» Ralph Keyes المصطلح ذاته سنة 2004 في عنوان كتابه «عصر ما بعد الحقيقة: التضليل والخداع في الحياة المعاصرة» The Post-Truth Era: Dishonesty and Deception in Contemporary Life، الذي ذهب فيه إلى أننا نعيش عصر الأكاذيب النبيلة التي يمكن تعديلها وتنقيحها وتهذيبها لتتوافق مع الوضع الراهن الذي يستلزم اغتيال الحقيقة من أجل مصلحة الشعب، حيث لم يعد الخط الفاصل بين الحقيقة والكذب واضحًا ومتميزًا،

بل لقد أصبح خداع الآخرين تحديًا مرغوبًا، أو بالأحرى لُعبة يتنافس الجميع على ممارستها بهدف التلاعب بالعقول وتنميطها! فقط في سنة 2016، وعلى خلفية الانتخابات الرئاسية الأمريكية واستفتاء المملكة المتحدة حول الخروج من الاتحاد الأوربي (بريكست Brexit)، انتشر المصطلح الجديد والغامض واكتسب زخمًا واسع النطاق.

تحليل الظاهرة في ضوء رواية 1984

ثمة تساؤلان رئيسان تثيرهما الفلسفة في هذا الصدد.. الأول: ما ماهية هذه الظاهرة التي يشير إليها مصطلح «ما بعد الحقيقة»؟ والثاني: لماذا اكتسبت كل هذه الاهتمام والزخم في الوقت الحاضر؟

يبدأ الباحثون عادةً تحليلهم لظاهرة «ما بعد الحقيقة» بالإشارة إلى رواية «1984» للروائي البريطاني «جورج أورويل» George Orwell (اسمه الحقيقي «إريك آرثر بلير» Eric Arthur Blair)، المنشورة سنة 1949، والتي وصف فيها أربع وزارات للحزب الحاكم المُتخيل، وهي: وزارة الحقيقة Ministry of Truth (وتعنى بترويج الأكاذيب)، ووزارة السلام Peace (وتعنى بالحرب)، ووزارة الحب Love (وتعنى بالتعذيب وغسل الأدمغة)، ووزارة الوفرة Plenty (وتعنى بتقليص الحصص الغذائية). وزارة الحقيقة وفقًا للرواية هي وزارة للدعاية من شأنها أن تقرر ماهية الحقيقة التي يرتضيها النظام، ومن ثم فهي مسؤولة عن أي تزوير ضروري للأحداث التاريخية والمعلومات المتداولة في وسائل الإعلام الإخبارية والترفيهية، وحتى البرامج الدراسية في المدارس والجامعات.

وهي ليست معنية فقط بإدارة الحقيقة، ولكن أيضًا بنشر لغة جديدة تُسمى «نيوسبيك» Newspeak (لغة الساسة)، وظيفتها الحد من حرية التفكير، وطمس المفاهيم التي تهدد النظام كحرية الإرادة، وحرية الرأي والتعبير، والسلام، والديموقراطية، وأي شكل من أشكال التفكير المخالفة للفكر الذي يسعى الحزب لنشره.

هكذا تتمخض الرواية عن تعريف جديد للحقيقة مؤداه أنها كل ما يتم إعادة إنتاجه من تصورات وأخبار ومعلومات تهدف إلى تشويه الحقائق وتوجيهها بما يخدم مصالح النظام في لحظته الراهنة، بحيث تُصبح الرؤية مُعتمة، ويغدو التمييز بين الحقيقة ونقيضها، أو حتى بين الحقيقة والآراء المختلفة بصددها، مستحيلا.

ومع تطور التقنيات الإعلامية وتكنولوجيا الاتصالات بات من السهل القفز من مرحلة «ما قبل الحقيقة» Pre-Truth (حيث تكون الحقيقة في طور التشكل للخروج من القوة إلى الفعل) إلى مرحلة ما بعد الحقيقة (حيث السراب المعلوماتي وضبابية الوعي!).

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

لحظة الحقيقة

الحقيقة في عصر الإعلام

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية